
وقفت طويلاً أمام الخزانة المزدحمة بالفساتين والملابس لمختلف المناسبات، كم تكره تلك اللحظات التي تجعلها في حيرة وصعوبة في اختيار ما تريد ارتداءه! أخرجت فستاناً نارياً رائعاً ذو قصات فريدة.. واستدارت إلى المرآة لترى كيف سيبدو عليها، تنهدت بعمق وهزت رأسها نفياً وحدثت نفسها باكتئاب " لن يصلح" !!
عادت تفتش ثانية في تلك الخزانة المسكينة، آه هذا هو! فستان بلون سواد الليل.. كلا لن ينفع! حتماً سيتعكر مزاجها أكثر ويصبح أكثر سوداوية عما هو عليه إن ارتدته!! القت به بعيداً ، كما ألقت بالعديد غيره حتى وقع اختيارها على فستان بسيط بلون العاج.. و بجمال اللؤلؤ .. ليكتمل جمالها القمري في تلك الليلة الحالكة السواد! انساب الفستان بنعومة على جسدها الهش .. واعتلت ابتسامة رضا رقيقة وجهها البريء!
تكللت المهمة الأولى بنجاح، عليها البدء بمهمة أخرى شاقة! الوقوف أمام المرآة!! نظرت إلى ملامحها التعيسة المنعكسة أمامها، ما الذي يمكنها فعله لإخفاء نظرة الحزن والبؤس تلك؟ هل ستنجح بتلوين وجهها بألوان الفرح كما تنجح عادة مع ظلال العيون؟! هل ستفي مساحيق التجميل بالغرض وتجعلها تبدو أكثر سعادة؟ أعليها حقاً الذهاب وتلبية دعوة العشاء تلك؟!
لعنت في سرها حفلات الاستقبال وولائم العشاء الكثيرة التي أصبحت تدعى إليها باستمرار، ولعنت أكثر تلك النسوة الفارغات اللاتي يقمن بإقامة تلك الحفلات بمناسبة أو بدون مناسبة! أعادت نفسها إلى الواقع بقوة، وانهت تبرجها بسرعة محاولة تهوين الأمر على نفسها وجعله يبدو أكثر بساطة! ولكنها تعود بفكرها دائماً إلى تلك النسوة ونظراتهن التي ستلهبها، فيزداد اضطراب معدتها وتشعر بالسقم أكثر! نظرة بثبات إلى صورتها بالمرآة .. حاولت أن تشعر بالثقة .. رسمت ابتسامة جميلة على محياها .. القت نظرة استحسان أخيرة على شكلها .. ففي النهاية لم تبدو سيئة على الاطلاق! لازالت قادرة على أن تجعل نفسها جميلة !! سمعت صوت أمها يناديها من أسفل، فاخفت شعرة بيضاء عنيدة متمردة، وأسرعت مغادرة الغرفة مخلفه وراءها جواً غامضاً عابقاً برائحة البخور والعود!
جلست في زاوية منزوية، كعادتها دائماً، بعيدة عن النظرات الفضولية وبمكان يسمح لها بالمراقبة جيداً. لطالما شعرت بلذة من مراقبة تصرفات البعض دون أن يشعروا، فهي بذلك تكتشف أبعاداً خفية وجوانب أخرى غير تلك التي يظهرونها. راقبت النساء المتأنقات حولها، لابد وأنهن قد قضين وقتاً طويلاً في التبرج والتأنق مثلها، هل يخفين أسراراً مثلها أيضاً؟! مجموعة منهن تضحك هناك، تكشف ابتساماتهن عن اسنان صفراء بغيضة! ومجموعة منهن جالسات في الركن الآخر، تبدو على ملامحهن الجدية لابد وانهن يناقشن موضوع هام! انتبهت فجأة إلى بعض السيدات يجلسن بالقرب منها، تناهى إلى أسماعها أطراف الحديث الدائر بينهن. استمعت إليهن حتى شعرت بالسأم والضجر! ألا يوجد غير الفنانات وعملياتهن التجميلية لمناقشتها؟! أخلت قضايا المرأة والمجتمع حتى تصبح الشائعات والأخبار السخيفة حديث الساعة؟ أدارت رأسها إلى الجهة الأخرى، طالعتها بعض السيدات الجالسات بهدوء يتناقشن بأمور تبدو هامة! أصغت بتركيز أكبر للحديث الدائر، وكم شعرت بالخيبة عندما التقطت أذناها نتافات من ذلك الحوار:
" كلا، لقد قمت بشرائها من فرنسا ولكن يوجد منها في مجمع الصالحية!"
" لا أحب اقتناء الساعات كثيراً ، فأنا أفضل المجوهرات والألماس عنها"
" هل رأيتهم الموديل الجديد من تلك الحقيبة؟"
تنهدت باحباط! وقررت مراقبة بعض العجائز الثرثارات فلابد أن يكون في جعبتهن الكثير من الأقاويل والحكايات المثيرة والمسلية! لم تكد تنظر إليهن حتى صدمت بنظراتهن العدائية الموجة إليها! ابتسمت لهن بتوتر وأشاحت بوجهها عنهن! هل كن يتحدثن عنها؟ هل يعرفن شيئاً؟! هل كُشف سِرها؟ مجيئها إلى هنا كان غلطة كبرى! ماكان عليها القدوم، لابد وأن الجميع قد عرف بموضوعها الآن! ستلوكها الألسن لا محالة! بحثت بنظراتها عن والدتها، يجب أن تغادر في الحال! كانت على وشك أن تهب واقفةمن مكانها حتى فاجأتها صاحبة الدعوة بقولها
" تفضلي ، العشاء جاهز!"
*
*
*
تـــمــــت